الأحد، 17 مايو 2009

كان يبصق قهره


اذكر جيدا ان الاسرة كانت "تخبيء" جدي الذي كان في اواخر عمره في احدى الغرف عندما كان هناك ضيوف في الانتظار. كنت اعجب حين ارى ابي او احد اعمامي يسانده في المشي الى الغرفة او يحمله ان كان غاطا في نوم عميق ثم يخرجون من الغرفة وحدهم ويغلقون الباب دون تعبير خاص الا شبح ابتسامة, عرفت فيما بعض انها ابتسامة ترقب لما يمكن ان يحدث بعد قليل او استذكار لما حدث في زيارة سابقة.

كان الضيوف يدخلون وتبدأ الاحاديث العادية والمجاملات وتوضع المكسرات والتضييفات ويتبادل الحضور الاسئلة عن المستجدات منذ اللقاء الاخير وعن فلان وعلنتان, ويلف الناس ويدورون لكن لا بد ان يدخلوا في السياسة اجلا ام عاجلا. وهنا كان عمي الاكبر – ان كان حاضرا- يرفع كتفيه قليلا وتشتد عضلات وجهه ترقبا بينما يخفض عمي الاصغر وجهه بحيث لا يمكن رؤية تعابيره.

- شو رايك بما يحدث في الضفة.
- والله العرب ما بس...
- تففوووو (خارجة من الغرفة المغلقة حيث جدي)

يسقط صمت ثقيل.
يهتز كتفي عمي الاصغر قليلا.

يلتقط احد اعمامي او ابي طرف الحديث المقطوع ويغيرون الموضوع, بينما تستمر الدهشة قابعة في وجوه الضيوف اذ انه لا مجال للشك في الكلمة التي صدرت اذ ان مصدرها يضغط جيدا على الحروف وخاصة الفاء ويحمل صوته نغمة القرف واضحة.

بعد دقائق تعود الامور الى نصابها, اذ يفسر كل من الحاضرين – في داخله – الصوت بشكل مختلف اذ لا بد انه لا علاقة مباشرة له بوجودهم او بالمحادثة اذ ربما يكون من بالغرفة مريضا بالزكام ومن المؤكد انها مجرد صدفة.

على اي حال, يستمر الحديث ولكن في لحظة مشؤومة قد يقول احدهم:

- لا يمكن اتهام الانظمة العربية بالتخاذل اذ.....
- تففووو


او قد يقول اخر:
- لا فائدة ترجى من العرب ولا...
- تففووو

عندها يحدث في العادة احد امرين: اما قد يشعر الضيوف بالاهانة فتقصر زيارتهم بشكل فجائي ويحمر وجه عمي الاكبر وهو يسلم عليهم عند المغادرة ثم يبدا بالصياح على جدتي لانها لم تقنع جدي بالتوقف عن هذه العادة السيئة التي "سودت وجه العائلة" ويطالبها بعدم مناداته من بيته في حال زيارة اي ضيوف في المستقبل, واما ان يستحوذ الموقف على انتباه الضيوف فترى ايقاع الكلام قد هدأ ترقبا وطالت فترات الصمت بين المحادثة والاخرى, وقد يصدف ان تصدر كلمة او جذر "عرب" مرة او اكثر وبعددها تسمع "تففووو" كل مرة, وقد لا تصدر, كل ضيف وحظه.

انا شخصيا كنت افضل النوع الثاني من الضيوف لانه لا حاجة برايي للشعور بالاهانة "كل ما دق الكوز بالجرة" كما تقول جدتي, كما ان البعض ممن لا يفتقرون الى حس الفكاهة كان يجد الامر طريفا فتراهم حين يسلمون على اعمامي يهمسون "سلمولنا عليه كثير" او "والله معو حق". هؤلاء كان وقع زيارتهم على اعمامي خفيفا ولذا لم يعاني جدي او جدتي من اللوم بعد انقضاء الزيارة عادة.

احد الايام عندما كنت وحدي في السيارة مع ابي سالته عن سبب تصرف جدي ولماذا هو غاضب الى هذا الحد على العرب. بعد صمت قصير اوقف ابي السيارة في جابب الطريق ثم سالني ان كنت اكره جدي او اخجل فيه. قلت له انني احب جدي كثيرا لكنني اكره كيف يخبؤونه هو واعمامي في الغرفة واني اعتقد انه هو يخجل بسببه. لم يتكلم ابي ولم يرد وانما استمر بالقيادة لكنه تفادى النظر الي.

بعد ايام وبينما كنت ادرس في غرفتي دخل ابي ثم اغلق الباب وراءه. جلس على طرف السرير ثم حكى لي عن "النكبة" و"النكسة" وكيف عايش جدى الاثنتين فتحمل الاولى لكن الثانية كان وقعها عليه مدمرا. قال لي ان جدى كان اكثر اهل البلد اعتزازا بعروبته ووطنيته وكان يحب عبد الناصر الى حد انه كان يمنع الحديث بتاتا في البيت عندما كانت اذاعة "مصر العربية" تبث خطابات الاخير, وكيف صرف من مدخراته لشراء مذياع وضعه في البيت لانه كان يغضب من التعليقات التي تصدر من السامعين في البقالة او المقهى بل وصل الامر الى حد الشجار بينه وبين من كان يشكك في اي من اقوال عبد الناصر.


وبدأت حرب الستة ايام وعاشت اسرة جدي والجيران حول المذياع. وضعوا المذياع في الصالون وفرشوا وناموا واكلوا وشربوا حوله. وتوالت الاخبار المفرحة من اذاعة مصر عن الانتصارات العربية الساحقة. جدي كان يخرج من الشرفة املا في رؤية فيلق مصري او عربي على مشارف البلد لكن جدتي كانت قلقة وفي الليلة الخامسة قالت لجدي : " مش حاسس انو بتهبلو علينا زي ال 48؟". جدي قال: " مش عبد الناصر, بعملهاش".

في اليوم السادس وبعد ان انكشف حجم الماساة, ظل جدي رافضا ان يصدق ما حدث وجلس امام المذياع ينتظر خطاب ناصر. جاء خطاب الهزيمة وانتهى تاركا جدي جالسا امام المذياع الى الصباح وجدتي تخرج من غرفة النوم, تنظر اليه من الخلف ولا تجرؤ على محادثته. في الصباح قام جدي من امام المذياع ثم توجه الى غرفة النوم, وقف على الباب وقال لاهل البيت: "داخل انام, متفيقونيش", ثم اقفل الباب خلفه ولم يخرج منها الا بعد ثلاثة ايام. جدتي كانت تقول دائما انه لم يخرج من تلك الغرفة ابدا.

"اما "تففففووو...." قالها ابي مقلدا طريقة جدي "تففووو قالها لما وقعوا معاهدة كامب ديفيد واستمر فيها حتى اليوم زي ما بتعرف". توقف ابي عن الكلام ثم ابتسم " بتعرف انا بفكر انو لسا بتابع اخبار العرب بالخفية مع انو عامل حالو مطنش".

ومر الوقت وايقنت ان جدي لن يغير من رايه ابدا في قناعاته حتى ذلك اليوم الذي اجتمعت فيه الاسرة في بيت جدي لتسمع اخبار الليلة خاصة ما يحدث في الضفة الغربية وغزة بعد اندلاع ما سمي بالانتفاضة. خيل لي في لحظة ما ان جدي الذي كان في غرفته قد اطل براسه من الغرفة. تظاهرت بالنظر الى الشاشة حتى لاح بالكاد رأس جدي من غرفته وكان يسترق السمع. رفعت صوت التلفاز حتى اسهل له العملية. جدتي قالت بصوت هامس دون ان تزيح نظرها عن النشرة : "صارلو كم يوم مهتم بهالانتفاضة".

بعد بضعة ايام كان جدي جالسا بيننا يستمع الى نشرة الاخبار ولم تصدر عنه "تفففووووو" واحدة وكان الامر غريبا في نظري.

توفي جدي سنة 1989 وهو جالس على اريكة الصالون بعد ان تابع نشرة الاخبار وسمع للمرة الاخيرة في عالمنا عن الانتفاضة وارادة الشعب الفلسطيني والافق الجديد والخطاب الذي كان مشبعا بالتفاؤل والتوقع بانهاء الاحتلال لا محالة.

توفي جدي قبل اوسلو والحربين على العراق وقبل غزة واريحا اولا وقبل السلطة ومناطق A-B-C وقبل الاغتيالات والعمليات التفجيرية وقبل السور الواقي ومذبحة قانا ومذبحة جنين والحرب على لبنان وقبل الانقسام الفلسطيني وانابوليس وقبل حصار غزة. توفي قبل هذا كله ولم يدعهم يضحكون عليه للمرة الثالثة.

بعد وفاته بقليل توفت جدتي وباع اولادها لبيت ولم نعد نجتمع مع اعمامي واسرهم الا في المناسبات العائلية. دائما في هذه المناسبات يفتح ابي واعمامي سيرة السياسة ودائما يتذكرون "تفففوووو" جدي وكم كان وقعها خفيفا على قلوبهم الا في حال وجود الضيوف.

اما انا فما زال ينتابني خوف شديد كلما دخل ابي الى غرفة النوم مربد الوجه بعد نشرة اخبار وكلما تاخر في الخروج صباحا من غرفة نومه.

هناك 4 تعليقات:

الكونتيسة الحافية يقول...

جدك لو كان لسة عايش كان طلع على الضيوف بصباعه الوسطاني كل ما تيجي سيرة العرب... أقذر احساس في الدنيا لما الأمل بينهار ... بتبقى فيه حالة غضب غير عادية على الناس والدنيا وربنا ... ربنا تحديدا لان العبث اللي بيحصل في الدنيا ده دليل على انعدام توازن وانعدام التوازن يعني ميزان العدالة مخلول

واحد مستقل فكرياً يقول...

زفت..
رهيب البوست يا صديقي.. فعلاً كل حياتنا نكسات..ذكرني بيوم سقوط بغداد صادفت قصص مشابهة وفي ناس بعدها مش طالعة من هاد الفيليم...
بالفعل تفو عكلشي...

سلامات رفيق

زفت يقول...

الكونتيسة

المشكلة انو احنا مدمنين على الامل الزائف...او على نوايا صادقة دون قدرات ودون تغطية ودون منهج

مالناش غير الاصبع ما غيره

زفت يقول...

مستقل

الفلم لسه شفال والسيكوالز عالطريق

نكسة 2
فكسة 3
وكسة 4

والحبل عالجرار