الأحد، 28 أغسطس 2016

صاح الاولاد يا يا - انسي الحاج



صاح الأولاد "يا! يا!"




قالت الصغيرة:
- أنا أضع القنابل
تحت أبواب الرأسماليّين (الطغاة)
لأنّي شيوعيّة (حرة)
وأنتَ؟
...
غمَرها بحنان خيبته
وعينيه العميقتين.
تطلّع إلى كنزتها
وكُتبها تحت إبطها
وذكر لها عن العمر
الذي بين لحظة ولحظة
بين رجل وامرأة
أو بين رجل وفتاة صغيرة.
...
قالت الصغيرة:
- أنا أُوزّع المناشير
ضدَّ أعداء الشعب
وأنت؟
...
وقف شَعْر خُبثه على قلبه
وقال لها
كيف لم يعد صغيراً
وكيف يعمل في أشغال
ناشفة لكنّها مُهمّة.
تطلّعتْ إليه
سكتت
طويلاً طويلاً
ومرّ ملاك.
وقالت:
- كنت أظنّك مع الشعب
صوتك دافئ
عيناك عميقتان،
لكنّك رأسماليّ (عبد)
ولن أراك.
...
في ما بعد
عرف أنّ الصغيرة قتلّتها الشرطة.
وفيما كان الرجل العميق العينين
يفكَ حُزنه بالخمرة الرأسماليّة (العبودية)
كانت طهارة الفتاة القتيلة
تعصر قلبه
وكانت براءته العاجزة وهو حيّ
تعصر قلبه
وكانت ذكرياته المُضحكة
تعصر قلبه
حتّى لم تعد في قلبه نُقطة
من دمه الرأسماليّ (الخانع للطغيان)
نُقطة
من دمها الشيوعيّ (الحر)
نُقطة
من دم إنسان.
...
ملأ قلبَه الحقد
وقسَم العالم قسمين:
الأولاد الذين ضدّ العالم
والعالم الذي ضدّ الأولاد.
...
وعمل خادماً ليَسُرّ الأولاد
حمل إليهم العالم
ليلة عيد
وضعه تحت أقدامهم
حدّثهم عنه
صاحوا: "يا! يا!"
وخافوا.
عندئذ أشعل الرجل العميق العينين
العالمَ الذي ضدّ الأولاد
بعود كبريت
فهبّ الحريق إلى السماء
حتّى سمعته الصغيرة التي قتلَتها الشرطة
ومن هُناك
شاهدتْ حُبّه
وكُلّ أولئك الأولاد
يخدمهم لأجل سرورهم
وقالت:
"كان لا بدّ أن يُعيّدَ الأولاد. أحْسَنت!"
ونظر الرجل العميق العينين
ليرى إذا نسي شيئاً خارج الحريقة
فلم يرَ
ولما أبصر الأولاد فرحين
وصاروا أحراراً من الخريطة
أغمض عينيه العميقتين
وسدّ أنفه
وارتمى في النار


الخميس، 24 مارس 2016

سيارتي الحمراء وحصان ريتشارد



"حصان, حصان, مملكتي كلها مقابل حصان"


هذه المقولة الشهيرة من مسرحية شكسبير "ريتشارد الثالث", حيث ينادي الملك ريتشارد, الطاغية القاتل, الاحدب المشوه خلقيا, في خضم المعركة الاخيرة وهو مصاب, يبحث عن حصان للهروب من الهزيمة والموت. في قراءة  مختلفة لهذه المسرحية, قدم مخرج مشهدا افتتاحيا يمثل ريتشارد المشوه وهو صغير, يلعب بحصان خشبي, فيأخذه منه الاولاد حوله ويتقاذفونه فوق ريتشارد, الذي لا يستطيع استرداده لانه احدب, ويسخر الاولاد منه  ومن جسده. هذه السخرية القاتلة, هي الدافع الخفي لوحشية ريتشارد اثناء حكمه, ورغبته في اثبات ذاته بأي طريقة كانت, والتعويض عن عطبه الجسدي وتنكيل المجتمع به.  

بينما يستجدي ريتشارد حصانا في المشهد الاخير, ما بين الواقع والهذيان, يخصص المخرج زاوية منفصلة على الخشبة يبدو فيها الاولاد وهم  يتقاذفون الحصان فوق ولد صغير احدب, يحاول ان يقفز اعلى ما يستطيع ليسترد حصانه فلا يقدر,  بينما يستمر صراخ ريتشارد الثالث: "حصان, حصان, مملكتي كلها مقابل حصان".

لو كان هناك من ارجع الحصان لريتشارد الصغير, او من دعمه في وجه تنكيل المجتمع به, هل كان ريتشارد سيستغل قدراته الرهيبة في حياة افضل؟

اصابني فلاشباك اثر هذا المشهد, ورجعت لحادثة اثرت في نفسي وطبعت في ذاكرتي. فزت في الصف التمهيدي او الاول بسيارة حمراء في علبة بلاستيكية, طرت فيها حقا (لم يكن لدينا حينئذ وفرة وتنوع الالعاب الى حد التخمة كما هو اليوم), وأخذتها لالعب فيها في الخارج. مر بعض الاولاد الاكبر سنا فأخذوها مني, فرجعت باكيا الى البيت. عندما أكتب هن هذه الذكرى حتى اليوم تدمع عيوني بشكل لا ارادي, واحس بشعور الحنق والقهر حقيقيا. ليست هذه التجربة اسوأ ما مررت به في حياتي طبعا, لكنها التجربة الاولى بشعور العجز والضعف التي اذكرها. اظن ان كرهي للظلم ولسلب الاخرين قد تشكل ايضا بسبب هذه الذكرى, وأدهش كل مرة من قوة تأثير هذه الذكريات على التشكيل النفسي لأي انسان, وتصوره لنفسه.

كم من المهم ان ندعم الاطفال, نحترمهم,  ونشعرهم بالامان والدعم, بالاخص بعد تجربة الفقدان,
وكم من ملايين الاطفال العرب يفتقدون حصانهم الخشبي


السبت، 13 يونيو 2015

الباب الاول: في سرد الوقائع المثبتة حول دخول ابن بطوطة الى فلسطين رغما عن انف الإسرائيليين وتفاصيل أخرى - الجزء الثاني



"فكرك مات؟"
وقف الفرسان الثلاثة بجانب الفتى النشيط وبعض الرجال ينظرون الى جسد الشيخ المرمي على الارض...ثم انطلقوا جميعا وبسرعة كل الى جهته, ركب كل سائق سيارته وانطلق ينهب الارض مبتعدا, ولم ينسى السائق الاول قبل ان يغادر ان يأخذ العشرون دينارا التي كانت في يد الشيخ ولكنه ترك العشر دنانير تحسبا ليوم القيامة كما اخرج حقيبة الرحالة من السيارة ورماها بجانبه, وتفرق الجمع بسرعة غير راغبين في التواجد بجانب الجثة في حال حصول سين وجيم, بعضهم يضرب كفا بكف ويقول "لا حول ولا قوة...", البعض يلوم البعض الاخر على تركه الشيخ في هذه الحالة فيجيب البعض الاخر "وانا مالي...ماليش بالقصة من اساسه".

فقط الفتى النشيط بقي واقفا الى جانب الشيخ برهة حتى ابتعد الجمع الذي شارك في الواقعة, ثم انحنى وهمس للشيخ "أمان يا حاج", عندها فتح الشيخ عينيه ثم رفع رأسه وجلس القرفصاء ببعض الجهد, وأشار للفتى ان يجلس قبالته ففعل.

نظر الشيخ الى  الفتى الذي انقذه حين اشار له بالتظاهر بالإغماء, ثم ربت على خده قائلا "احسنت صنعا يا بني..كيف اكافئك؟".  لم يجب الفتى لكن ثيابه الرثة تكلمت عنه, فأخرج الشيخ من جيبه عشرون دينارا ناولها للفتى الذي سر ايما سرور, وهم بالذهاب لكن الشيخ اشار له ان ينتظر حتى اخرج  كتابين من حقيبته وكتب عليهما بعض العبارات بخط يده ثم ناولهما للفتى الذي تردد في اخذهما وقال للشيخ "ما بعرفش اقرأ" فاجابه "اذن فبعهما وسيكون ما كتبته بخط يدي سببا لزيادة ثمنهما".

ذهب الفتى في حاله  واخذ الشيخ ينفض ثيابه ناهضا من مكانه وجر حقيبته باتجاه المعبر بعد ان اجتاز هذه المحنة واعدا نفسه ان لا يفاصل سائقي الاجرة في المستقبل مهما كان السبب وان يركب سيارة غير مكندشة  فقط.
                                                *          *          *
عند وصوله  المعبر لفت انتباه الشيخ ان طوابير الخارجين من الاراضي المقدسة  اطول بكثير من طوابير الراغبين بالدخول اليها, كما لفت انتباهه ان الخارجين تتسم ملامحهم بالسعادة والاطمئنان والراحة بل ان احدهم وضع حقيبته على الارض فور ان خرج من المعبر ثم ركع وقبل الارض وقام واستدار وبصق في اتجاه المعبر وقال بصوت مسموع "تفوو عا هيك بلد" قبل ان يحمل حقيبته ويغادر بسرعة. اما الداخلين فقد ارتسم  الغم والهم على ملامحهم  وكانوا يخطون نحو المعبر ببطء شديد كمن يدفع نحو الشيء دفعا, وعلى غير العادة في بلاد العرب لم يكن احد يمانع في ان يسبقه احد اخر ويأخذ دورهوهذه ثالثة الاثافي في العرف العربي  والمقابر مليئة بضحاياها.

بدا الامر في اشد الغرابة  لرحالتنا بعد كل الادبيات التي قرأها عن الاشتياق العربي الى هذه البلاد واللوعة التي تنضح من النصوص التي كتبها المهجرون واللاجئين عن الفردوس الفلسطيني المفقود, لكنه عزا ذلك الى فظاعة الممارسات الاسرائيلية على المعبر التي تجعل عملية الدخول في غاية النكد لكن لا شك انه ما ان يضع المرء رجله على ثرى هذه البلاد حتى يأخذه سحرها. أقنع الشيخ نفسه بهذا التفسير ووقف ينتظر في الطابور.

بعض دقائق معدودة وصل ابن بطوطة الى شباك الجوازات فسأله الموظف الاردني دون ان ينظر اليه "شو هدف الزيارة؟"
"ليس هناك هدف خاص...اريد ان ارى هذه البلاد"
رفع الموظف رأسه وتفحص الشيخ الماثل امامه  ثم اخفض راسه من جديد وقال ببعض الحدة " يلا يا حاج خلصني...عندي شغل كتير. شو سبب الزيارة...يعني زيارة زوجة او اولاد...زيارة اقارب اخرين...زيارة مريض...نية في الاستثمار...حضور مناسبة عائلية او جنازة... شغل في مؤسسة دولية اجنبية (هنا رفع رأسه ونظر الى الشيخ وملابسه) لا أظن ذلك ..هه هه..شو سبب الزيارة يا حاج؟"

"يمكن ان تقول ان الهدف هو السياحة"...قالها الشيخ باسما
هنا تسمرت يد الموظف وتوقفت عن الكتابة, واخذ  يبحلق في وجه الشيخ بشدة حتى تأكد ان الشيخ لا يمزح, ثم سأله مرة اخرى للتأكد " شو قلت؟"
شعر الشيخ ببعض القلق لكنه اجاب بصوت متقطع "ل..لاغراض السياحة"
"سياحة....سيااااااحة......هاااااه هااااه هاااااه هاااااااااااااااااه ....سييياحة.....حلوووة يا حاج...هاه هاه هههههههههه...ملعوبة يا حاج....هاي لازم اشوفها هاي....سيياااحححة قال...حلوة هاي ههههههاستمر الموظف يقهقه وكرشه تقفز اعلى فأسفل ويشير باصبعه الى الرحالة الذي وقف مشدوها لا يدري ما الذي قاله كي يحصل كل هذا والانكى ان بعض الواقفين خلف الرحالة في الطابور اصابتهم عدوى الضحك واستداروا يخبرون الذين وراءهم تفاصيل هذه الطرفة الطريفة بينما ضربت احدى العجائز التي قاربت على قرنها الثاني  كفا بكف وقالت "شايب وعايب...ربنا لا تؤاخذنا فيما فعله السفهاء منا" ثم نظرت الى الشيخ نظرة نارية.

بعد ان هدأ ضحك الموظف متخذا شكل ابتسامة عريضة جدا وقهقهة متقطعة, خرج الأخير من الشباك واستدار نحو الطابور ثم أخذ الشيخ بيده ومر به عبر النوافذ الأخرى واقفا عند كل نافذة ليقص على الموظفين الآخرين فحوى حديثه مع الشيخ الغريب أو ينادي من بعيد على احدهم "فراس..تعال شوف...عنا سائح هون...هههههه". كما يبدو كان ما تفوه به الشيخ غاية في الطرافة إذ لم يبقى احد من المسئولين عن المعبر ألا وضحك ضحكا خفيفا أو استلقى على ظهره مقهقها, وخرج الجميع من مواقعهم  في المعبر تاركين الطوابير  وشكلوا موكبا مرافقا للرحالة من نافذة الجوازات إلى آلة اكتشاف المعادن ومن ثم إلى غرفة التفتيش فالمخابرات فالجمارك ولم تنتهي هذه الزفة إلا عند نهاية الجهة الأردنية من المعبر حين سلم  موظف الجوازات الشيخ جوازه ووقف جميع طاقم المعبر يلوح مودعا للشيخ الذي حمل حقيبته وبدأ بالمشي ببطء تحت وقع الصدمةكما اخبر طبيبه النفسي لاحقاوتحت وابل من التعليقات..

"ابقى ابعتلنا بوست كارد يا حاج...ههههه" يضحك الجميع
"اوعك تسوح يا حاج بالحر...ههههه" يضحك الجميع
"سلملنا عالسواح التانيين ..هههه" يضحك المتبقون ثم يعودون الى اعمالهم والى الطوابير ....


بعد ان تأكد انه لم يبقى احد وراءه التفت الشيخ نحو المعبر, ثم رفع اصبعه في الهواء وصرخ "ان هموا ذهبت اخلاقهم ذهبوا", وبعد ذلك عاود حمل  حقيبته واكمل سيره نحو الجانب الاسرائيلي.