الرابعة قبيل الفجر: يبدو ان التسجيل لصوت المؤذن قد تعطب وتحول الى أزيز مستمر ترجمه العقل اللاواعي الى حلم مرعب وجدت فيه نفسي مهاجما من قبل الاف النحلات الغاضبة علي لسبب ما, فقفزت من الفراش وإذ بصوت ال"إززززز" ما زال قائما في عالم الواقع, الشيء الذي سبب لي بدوره أزمة نفسية حادة لم استطع مواصلة النوم على أثرها.
السابعة والنصف صباحا: ما دمت لم أنم فلماذا لا أذهب مبكرا الى العمل و" أخرم عين" ال BOSS الذي يدعي دائما اني كسول. فتحت الصنبور وأذ به ينفث الهواء بدل الماء كمدخن عجوز لا يستمع الى نصح أطبائه. أردت ان أكفر لكني تذكرت عهدا قطعته على نفسي بالامتناع عن هذه العادة السيئة تحسبا ليوم الحساب, فلجمت نفسي.
نزلت الى ساحة البيت لاتفحص اذا ما كان " الشبر الرئيسي" الخاص بشقتي قد أغلق سهوا أو عمدا, فوجدته مفتوحا على مصراعيه بشكل يكفي لتدفق نهر فرعي. عدت أدراجي واذ بي أرى شجرة صغيرة تتراقص غصونها مما استحضر الى ذهني حادثة النبي موسى مع العريشة المشتعلة التي خرج منها صوت الله يكلمه, وبما اننا في القدس فكل شيء ممكن, لكن هذه الشجرة بدت لي أتفه من ان يتم اختيارها لهذه المهمة الجسيمة, لذا امعنت النظر فانجلى من وراء جذعها جزء من مؤخرة متجعدة لصاحب العمارة العجوز خارجا من البنطال, وصاحب المؤخرة منهمك في نكش الارض الترابية.
بادرته قائلا: صياح الخير يا حاج, تيار الماء مقطوع منذ الصباح ولا استطيع الاستحمام
التفت الي صاحب العمارة مغتاظا لاني قطعت خلوته الفكرية مع القشرة الارضية وقال: شو أعملك يا بني..تيار المياه يصل هنا من رام الله خفيفا وعندما يصعد عبر الانابيب الى الخزان الرئيسي الموجود أعلى السطح, يضعف مرة أخرى ولذا هو يصل الى الصنابير المنزلية ضعيفا ضئيلا.
طبعا لم يعد هناك ما أقوله إذ عرف السبب وبطل العجب...شركة المياه الاسرائيلية تبيع المياه للشركة الفلسطينية التي تبيعني أياه بدورها بما اني اسكن في الاحياء العربية ذات البنية التحتية المتخلفة بسعر أغلى ومن الطبيعي أن يصاب تيار المياه بالتعب بعد هذه العملية التبادلية السلمية فيصل الى حنفيتي لاهثا متقطع الانفاس ومن الطبيعي ان يتبخر.
بلاش حمام..أصلا انا مش عرقان.
الثامنة والربع: هذه المدينة تتحول الى أزدحام مروري متواصل. بلدية القدس تعمل في جميع شوارع البلد في نفس الوقت. في بيت حنينا ما زالوا يحفرون ويضعون السكك الحديدية للمترو من 4 سنوات دون أي اثر لمحطة ركاب يمكن ان يستعملها أهل بيت حنينا لركوب المترو. ما علينا "ما وقفتش عالمترو" . السيارات لا تتحرك بتاتا وما زلت قابعا مكاني لا اتزحزح منذ ربع ساعة على الاقل. لن أخرم عين ال BOSS اليوم كما يبدو.
الثامنة والنصف: تقدمت مسافة 10 امتار على أكثر تقدير ولن اتقدم غيرها لان سيارة "السفريات الموحدة" التي اتت من على الرصيف واندحشت أمامي قد أغلقت المجال تماما وهي بدورها لا تستطيع التقدم الان لان سيارة خصوصية حاولت ان تمر قبلها فارتطمت مقدمة السيارتين وها هو سائق السفريات الموحدة منخرط في جدال حاد - قد يتطور في أي لحظة الى شجار- مع سائق السيارة الخصوصية بينما يراقب راكبي سيارة "النقليات الموحدة" الموقف عبر زجاج السيارة وأراقب انا المشهد برمته وأريد أن أكفر, لكني أذكر نفسي أن هذه عادة سيئة وألجم نفسي. ما يزيد الطين بلة ان سيارات أخرى عمومية وخصوصية من الوراء تحاول تجاوز هذا الاختناق عبر الصعود الى الرصيف لكن الرصيف ضيق فيضطر السائقون الى الرجوع الى الشارع مما يزيد من الاختناق وتراكم السيارات بجانب بعضها ويمنعني حتى من فتح الباب والخروج من السيارة. لا أريد ان أكفر.
الثامنة وخمسون دقيقة: ها أنذا اقترب من الاشارة الضوئية المؤدية الى شارع رقم 1, هو الشارع الرئيسي الذي ينفذ الى البلدة القديمة والقدس الغربية. هه.. لم يكن ازدحاما عاديا فهناك حاجز مكون من سيارة شرطة أسرائيلية تسد أحد المسارين 10 أمتار قبل الاشارة الضوئية. أرجو أن لا توقفني. شرطي واقف بجانب السيارة ينظر الى داخلها ويؤشر لمن "يعجبه" ان يقف جانبا لكي يتناوله شرطي وشرطية اخرين ويفحصا أوراقه ومركبته. من حسن الحظ إني لا أعجبه.
التاسعة والربع: أدخل الى المكتب فأجد ال BOSS منحنيا فوق كتف "المساعدة الادارية" يراقب ما تطبعه على شاشة الحاسوب وما تيسر من حمالة الصدر وحمولتها, فيرفع رأسه الي ثم ينظر الى ساعته ولا يقول أي شيء. ادخل الى مكتبي وأسأل زميلي في المكتب: متى وصلت؟ الثامنة والربع يقول دون أن يرفع رأسه عن الشاشة. ماذا يفعل ابن الزانية هذا لكي يصل مبكرا كل يوم؟
الواحدة ظهرا: يدخل ال BOSS الى مكتبي ثم ينظر ألي ويقول: EMERGENCY ثم يلتفت ويهرول الى مكتبه فألحق به. يعطيني بعض الاوراق ويبلغني انه لدي نصف ساعة بالظبط لتقديم استئناف في محكمة العمل القطرية وان اليوم هو اليوم الاخير للأستئنافات وفي حال لم أقدم الاستئناف اليوم قد يخسر الزبون مئات الالاف من الشواقل. المحكمة ليست بعيدة, مسألة 10 دقائق بالسيارة.
الواحدة والربع: ما زال المسؤول عن موقف السيارات يبحث عن صاحب السيارة الذي أوقف سيارته أمام سيارتي تماما فمنعني من الخروج. أفقد الامل في ان يجده فأركض الى الشارع حيث يحالفني الحظ وأجد سيارة أجرة أستقلها فورا وابلغ سائفها جهتي وأني مستعجل لكنه يؤشر لي برأسه الى الوراء فأجد سيدة كورية في المقعد الخلفي لم ألاحظها قبل تلك اللحظة ويقول لي مبتسما : "ماشي بس أوصلها أول". تنتابني رغبة قوية بأن أكفر لكنني اتذكر الحملات الجهادية التي شنها المحليين على من تجرأ على ذلك في حوادث تاريخية. أنزل من السيارة بينما يتفوه السائق ببعض الشتائم بصوت منخفض. انتظر خمس دقائق أخرى ولا تظهر أي سيارة أجرة بالافق. أريد ان أكفر لكن العناية الالهية تبعث بسيارة أجرة أخرى أركبها بعد ان أتأكد انه ليس هناك سيدات اسيويات في المقعد الخلفي.
الثانية الا ربعا: اندفع راكضا نحو قلم المحكمة والخطة جاهزة قي رأسي. extreme situations demands extreme measures. كل ما علي فعله تبديل الراء بال"غاء" لتبدو اللهجة أشكنازية ( يهودية غربية) وأنا اليوم حليق اللحية. أرسم على وجهي ابتسامة خجولة وأقول لموظفة الاستقبال فورا عند وصولي لقلم المحكمة "اني حاياف لهغيش ات هعغعوغ. زي هيوم هأهغون" (أي انا ملزم بتقديم الاستئناف. اليوم هو اليوم للاخير) وأبتسم فتبتسم لي بدورها وتأخذ الاوراق لكن ابتسامتها تختفي حينما تقرأ أسم المستأنف (الاسم محفوظ في مكاتبنا) وهو أسم عربي قح, وتحل مكانها ابتسامة رسمية جدا تتبعها نظرة خاطفة الى الساعة ثم تقول بالعبرية : اسفة..ينتهي دوام القلم الساعة الواحدة والنصف, ثم تغادر مكتبها الى غرفة مجاورة. أردت ان أكفر, لكن ما الفائدة.
الثانية الا خمسة دقائق: طبعا عند خروجي من المحكمة وجدت سيارة أجرة على الفور وكانت الشوارع خالية نسبيا فوصلت في سرعة قياسية, لاجد ال BOSS في انتظاري. ابلغته بما جرى فلم يقل أي شيء ثم غاب في مكتبه ليعود بعد ربع ساعة مع بلاغ خطي مسبق بأنهاء خدمتي في نهاية الشهر, وضعه على مكتبي بعصبية ثم خرج.
الرابعة عصرا: دخلت الى ساحة البيت مهموما أفكر في الورطة التي حلت بي, وإذ بصاحب العمارة يخرج الي بغتة كفهد يتربص لفريسته منذ ساعات. "لدي قاتورة وبلاغ....الفانورة هي الضريبة البلدية التي رفعتها بلدية القدس مؤخرا...والثانية بلاغ من بلدية رام الله مفادها انهم سيضطرون الى قطع المياه لمدة يومين وربما أكثر بسبب أعمال تغيير بنية تحتية "
أخذت منه الورقتين ونظرت اليهما مطولا. أردت ان اكفر لكنني بدل ذلك بدأت أضحك عاليا فنظر الي صاحب العمارة بتمعن, ثم هز رأسه قليلا وبعد ذلك عاد الى شقته وأغلق الباب.
* مقدم كمادة للتفكير من قبل حركة "مواطنين لاجل تدمير القدس"