أمسك الكتاب الاول باللغة الانجليزية وأخذ يقلبه بيديه الخشنتين بسرعة ثم نظر الى الغلاف الخارجي وأطال التدقيق في الرسم عليه...
بدا لي في تلك اللحظة كغوريلا كبيرة وقعت بين يديها لعبة جديدة فأخفضت رأسي كي اكبت ابتسامتي ونظرت الى قدمي فلفت انتباهي اني نسيت ا ن اقص اظفر اصبع رجلي اليمنى الاوسط فبدا الاظفر الطويل متحديا بوقاحة من خلال فتحة الصندل مقارنة باخوته المقلمين المؤدبين. كيف يمكن ان ينسى انسان قص أحد أظافره وهو يمر على أصابعه المصطفة وماذا يقول هذا النسيان عن ذاك الانسان؟ (لا بل وينسى أظفر إصبعه الاوسط مما قد يمكن تفسيره كبعبوص من الفئة القدمية)
الاهم من ذلك ماذا سيقول العسكري المسئول عن الة كشف المعادن عن هذا التصرف؟ هل سيعتقد انه سلاح أنوي استعماله للسيطرة على "ميناء طابا البري"...
ما دخل العسكري بأظافر رجلي؟ اوففف يا الله...لماذا رفضت النصيحة وأحضرت كتابا بالعبرية معي؟
رفعت نظري فإذ بالعسكري الهمام يطالع صفحات الكتاب العبري بإهتمام. توجست شرا فأشار لي عقلي بأن أطلق ساقي للريح وأركض عائدا باتجاه المعبر (يا للمأساة) وتراءى لي مشهد اقترابي راكضا من الحاجز المصري والعسكريون الثلاثة متكاتفون هناك لمنعي فأحاول تضليلهم عبر بعض الحركات الماهرة وأنجح (هنا ينغص عقلي الواعي فرحة النجاح إذ يذكرني بوزني الزائد لكني اتجاهله اذ يحق للرائي ما لا يحق لغيره ) لكن رصاصة غادرة يطلقها الغوريلا تصيبني في ظهري وترديني صريعا...ليس قبل ان تشمت بي ضابطة الامن الاسرائيلية الواقفة على بعد أمتار من مكان سقوطي وتقول:
"مش عاجبك دولة اسرائيل اههههه....عنا بطخوقاش علشان كتاب عالقليلة"
"أي ما فشرتي يا كلبة يا بنت الكلب....بضلني محلي وبتبهدل ولا تشمتي في يا هيك وهيك"
عقدت العزم على أن اصمد وادافع عن حقي في قراءة العبرية من باب "إعرف عدوك" واذا شاء القدر أن أعتقل فلا بد ان يثير الامر ضجة إعلامية كبرى في الوسط العربي وتظهر صورتي على موقع "بانيت" و"بكرا" و"رادار" وسيتدخل طلب الصانع واحمد طيبي وسيأتوا لزيارتي و... ربما من الافضل أن اهرب.
"ايه ده يا باشا؟ " كانت لهجة السؤال غير ودودة رغم التعظيم الطبقي. هنا ورغم صعوبة الموقف ألح علي سؤال نظري مقلق وهو : "اذا كان اخواننا يبالغون ويتفننون في التعظيم عندما تكون ضيفا عليهم فما عساهم يفعلون عندما تحل عليهم معتقلا؟ هل سيصفعك المحقق "سلومة الاقرع" ثم يسألك: "بتعترف ولا لأ يا باشا يا ابن الكلب؟"
"يا باشا...انت مصحصح معايا ولا إيه...ايه ده؟"
"ده" كان - ويا للمفاجأة - كتابا بالعربية إذ ان نظيره العبري كان قد عبر الى بر ألامان. عنوان الكتاب كان "الأسس الفلسفية للعلمانية" لعادل ضاهر وهو محاولة - كما هو واضح من العنوان – للتأسيس لمفهوم العلمانية اعتمادا على نظرية المعرفة (EPISTEMOLOGY) أي دراسة طبيعة ومنظور مفهوم العلمانية بشكل نقدي وبمعزل عن نقد النص الديني أو أي نظرية ما فوق طبيعية.
احترت كيف أصف الكتاب فأوجز ولا أدخل في تفاصيل قد تستدعي اسئلة إضافية فقلت مبتسما ابتسامة "باشوية" في منتهى البراءة:
" دي فلسفة يا كابتن"
"فلسفة..." اتسعت عينا العسكري ونظر الى الكتاب نظرة خاطفة وأردف "دي تبقى مشكلة يا فندم". لاحظ كيف انخفضت منزلتي الاجتماعية من مرتبة "الباشا" الى مجرد "أفندم" وهي مرشحة الى النزول اذا تعقدت الامور الى منزلة "كلب".
ثم اخذ الكتاب واتجه الى الغرف الداخلية وعاد بعد ثوان ومعه ظابط اعلى منه رتبة ينظر الي شزرا فهيأت نفسي لسماع الجملة التي يكررها من يقبضون على المجرمين في الافلام المصرية:
"انت مقبوض عليك وحتيجي معنا عالقسم فورا"
"طب ممكن أغير هدومي الاول؟"
"ايوا بس بسرعة"...
ممكن سؤال نظري لم يخطر على بالي عندئذ: ماذا يلبس الانسان قبل ان يتم إقتياده للقسم؟ اليس اختيار ملابس مناسبة في هذا الموقف عناء بحد ذاته؟
سؤال نظري أخر خطر على بالي عندئذ في المسافة الزمنية حتى وصولهما الي: هل تستحق العلمانية كل هذا العناء؟ لمن سأصلي وأتضرع خلال فترة الاعتقال والتحقيق؟ لعادل ضاهر؟
"حضرتك الكتاب ده ممنوع..." قال لي الظابط
"ليه يا كابتن؟" سألت وقد رسمت على محياي ابتسامة "أفندمية" مصرة تغالب القدر
"علشان انا قلت كده يا خويا" ... يبدو انني على شفير الانزلاق الطبقي الذي لا تحمد عقباه
"زي ما انت عاوز يا باشا" قلت وابتسامة "كلبية" لا تفارق مبسمي
قال الظابط للعسكري "خود منو الكتاب وخلي يعدي خلاص" ...ثم اختفى في الغرف الداخلية
أطاع العسكري الاوامر فأخذ عادل ضاهر وعلمانيته الى جهة مجهولة ثم أعاد الي حقيبتي وقال قبل ان اكمل الى قسم الجوازات: "انت جاي سياحة ولا ايه... يلا عدي واحمدو ان الباشا مزاجو رايق النهارده...قال فلسفة قال"
***
* مستوحاة من قصة حقيقية.