شهدت احدى المدارس في بلادنا ذاك اليوم حركة غير اعتيادية خاصة في غرف الادارة وغرفة المعلمين ذلك ان مفتش وزارة المعارف الاسرائيلية كان قد أعلم مدير المدرسة دون بلاغ مسبق انه في طريقه لعقد جولة تفتيش مفاجئة لصفوف الابتدائية.
مفتشو وزارة المعارف والعرب منهم تحديدا – كما تعلمون جيدا – هم كائنات خرافية تملك مفاتيح سعادة وتعاسة الكثيرين والكثيرات ممن يحلمون في وظيفة معلم/ة ثابتة تسمح لهن/لهم بالاستقرار والعيش بكرامة في المجتمع الفلسطيني داخل اسرائيل الذي يعاني من اعلى نسب البطالة والفقر في البلاد, ذلك ان الحصول على الوظيفة مشروط بموافقة وزارة التعليم الاسرائيلية, والحصول على موافقة الوزارة مشروط بموافقة الجهات الامنية, والحصول على موافقة الوزارة والجهات الامنية منوط (حلوة هاي منوط, عجبتني) بالحصول على موافقة المفتشين وتدخلهم لمصلحة المرشح/ة, والحصول على ود المفتشين منوط ب....الحاصول ان هناك محصول كامل من المرشحات والمرشحين منوط برضا المفتشين مما منح الاخيرين مركزا اجتماعيا فائق الاهمية وجعل كافة الاسر تطلب ودهم.
لهذه الاسباب كانت زيارة المفتش المفاجئة للمدرسة حدثا جللا وكان لا بد من اتخاذ الاجراءات الفورية لاظهار المدرسة, مديرها وطاقم معلميها بصورة حسنة ولائقة. بناء عليه استدعى المدير مدرسي المرحلة الابتدائية واصدر تعليماته بالتشديد على الانضباط التام وضرورة تفاعل الطلاب مع المفتش وبالاخص شدد على منع حدوث اي مواقف محرجة وخاصة مواقف لها علاقة بالسياسة. بعد ذلك صرف المدير المدرسين الى الصفوف للاستعداد لزيارة المفتش.
* * *
في الصف التاسع شعبة "ا" كان مدرس اللغة العبرية الاستاذ ماهر – وهو شاب عين حديثا في المدرسة- يطل برأسه من باب الصف بين الفينة والاخرى ليرى ما اذا كان المفتش يقترب من الصف, بينما كان أحد الطلاب يقرأ موضوع الانشاء الذي لم يعره ماهر أي اهتمام وأكتفى بهز رأسه وبكلمة "ممتاز" هنا وهناك.
كان ماهر يخطط لاستدعاء احدى طالباته المتفوقات لتقرأ موضوعها حالما يقترب المفتش فيبهر الاخير من لغتها ويكون انطباعا جيدا عن استاذها. لكن لسوء الحظ تأخر المفتش بينما انتهى الطالب من قراءة موضوعه وعاد للجلوس في مكانه, فأختار ماهر طالبا اخر ليقرأ الانشاء حتى يحضر المفتش واستدعاه للوقوف عند طاولة المعلم ثم استدار ومشى بعض الخطوات باتجاه باب الصف لكن رجله تسمرت في الهواء وهوى قلبه تحت معدته حينما سمع عنوان موضوع الانشاء الذي قرأه الطالب بصوت جهور:
"النكبة"
مفتشو وزارة المعارف والعرب منهم تحديدا – كما تعلمون جيدا – هم كائنات خرافية تملك مفاتيح سعادة وتعاسة الكثيرين والكثيرات ممن يحلمون في وظيفة معلم/ة ثابتة تسمح لهن/لهم بالاستقرار والعيش بكرامة في المجتمع الفلسطيني داخل اسرائيل الذي يعاني من اعلى نسب البطالة والفقر في البلاد, ذلك ان الحصول على الوظيفة مشروط بموافقة وزارة التعليم الاسرائيلية, والحصول على موافقة الوزارة مشروط بموافقة الجهات الامنية, والحصول على موافقة الوزارة والجهات الامنية منوط (حلوة هاي منوط, عجبتني) بالحصول على موافقة المفتشين وتدخلهم لمصلحة المرشح/ة, والحصول على ود المفتشين منوط ب....الحاصول ان هناك محصول كامل من المرشحات والمرشحين منوط برضا المفتشين مما منح الاخيرين مركزا اجتماعيا فائق الاهمية وجعل كافة الاسر تطلب ودهم.
لهذه الاسباب كانت زيارة المفتش المفاجئة للمدرسة حدثا جللا وكان لا بد من اتخاذ الاجراءات الفورية لاظهار المدرسة, مديرها وطاقم معلميها بصورة حسنة ولائقة. بناء عليه استدعى المدير مدرسي المرحلة الابتدائية واصدر تعليماته بالتشديد على الانضباط التام وضرورة تفاعل الطلاب مع المفتش وبالاخص شدد على منع حدوث اي مواقف محرجة وخاصة مواقف لها علاقة بالسياسة. بعد ذلك صرف المدير المدرسين الى الصفوف للاستعداد لزيارة المفتش.
* * *
في الصف التاسع شعبة "ا" كان مدرس اللغة العبرية الاستاذ ماهر – وهو شاب عين حديثا في المدرسة- يطل برأسه من باب الصف بين الفينة والاخرى ليرى ما اذا كان المفتش يقترب من الصف, بينما كان أحد الطلاب يقرأ موضوع الانشاء الذي لم يعره ماهر أي اهتمام وأكتفى بهز رأسه وبكلمة "ممتاز" هنا وهناك.
كان ماهر يخطط لاستدعاء احدى طالباته المتفوقات لتقرأ موضوعها حالما يقترب المفتش فيبهر الاخير من لغتها ويكون انطباعا جيدا عن استاذها. لكن لسوء الحظ تأخر المفتش بينما انتهى الطالب من قراءة موضوعه وعاد للجلوس في مكانه, فأختار ماهر طالبا اخر ليقرأ الانشاء حتى يحضر المفتش واستدعاه للوقوف عند طاولة المعلم ثم استدار ومشى بعض الخطوات باتجاه باب الصف لكن رجله تسمرت في الهواء وهوى قلبه تحت معدته حينما سمع عنوان موضوع الانشاء الذي قرأه الطالب بصوت جهور:
"النكبة"
مرت بضع ثواني قبل ان يتدارك ماهر نفسه ويستدير بسرعة الى الطالب ثم يسحب منه الورقة التي كأن قد بدأ يقرأ منها بعنف, ثم يشير اليه بأن يعود لمقعده, ثم يهم بأخفاء الورقة في حقيبته ...لكن سخرية القدر (عمليا براعة كاتب هذه القصة العصماء) جعلت المفتش والمدير يدلفان الى الصف في تلك اللحظة بالتحديد وجعلت الاول يبادر الاستاذ ماهر سائلا:
- شو هاي الورقة إلي بايدك؟
- احمم...حضرة المفتش هذا انشاء كتبه أحد الطلاب...
- مزبوط؟.. ممتاز...خلي يقرالنا ياه لنشوف مستوى اللغة العبرية
لم يكن ماهر بحاجة الى ذكاء خارق ليدرك ان قراءة انشاء عن "النكبة" بحضور المفتش معناه حتما فصله من المدرسة وتصنيفه في القائمة السوداء ومنعه عن ممارسة مهنة التعليم فعليا. من ناحية اخرى هو لا يستطيع في تلك اللحظة ابتداع موضوع انشاء بلغة طالب صف الثامن فما العمل؟
أسقط في يد ماهر وكاد ان يغمى عليه لكن ابراقة وردت في ذهنه خلقت في نفسه أملا تعلق به كما يتعلق الغريق بقشة, اذ قرر انه سيقرأ الانشاء كما هو لكنه سيغير العنوان, وهكذا سيتفادى وقوع اللوم عليه حتى لو بدى الانشاء ركيكا, ولا شك ان تصنيفه كمعلم فاشل خير من تصنيفه كمعلم مسيس و"متطرف".
بعد ان ارتاح الى هذا الحل قال:
- سيادة المفتش...هذا الطالب عنده موهبة كتابية لكن إلقائه ضعيف...حبذا لو قرات الموضوع مكانه
- "لا مانع..." قال المفتش " شو عنوان الانشاء"
- عنوان الانشاء...هو
بلع ماهر ريقه....النكبة باللغة العبرية تكتب "ها ناكبه"...قال لنفسه.."يجب ان تكون هناك كلمة شبيهة...اهههه وجدتها.."
- العنوان هو "هانيكيفاه"
- "الانثى؟!!!" سأل المفتش بدهشة
- نعم العنوان هو "الأنثى"
- اوكي لا بأس..تفضل إقرأ
بلع ماهر ريقه مجددا, ثم نظر الى الورقة وبدأ يقرأ بالعبرية:
" لا يمكن ان أصف لكم معنى "هانيكيفاه" في حياتي...كم أكرهها لكن لا استطيع فهمها في نفس الوقت. كنت ساذجا قبل أن أسمع بها أول مرة..وفقدت سذاجتي عندما بدأت أسمع من جدي وأبي أعمامي ومن هم أكبر مني عن ماذا فعلت "هانيكيفاه" بهم...كيف هاجمت جسد جدي الذي كان رجلا قويا وحطمته نفسيا ايضا. كيف فعلت مع ابي واخوته الصغار الذين لم يعرفوا كيف يتعاملون معها...
ولا يمكن أن أمنع نفسي من السؤال: هل ستفعل "هانيكيفاه" بي نفس الشيء؟ هل سأدعها تفعل ام سأخترق حاجزها الى الجهة الاخرى"
هنا توقف ماهر قليلا عن القراءة والقى نظرة خاطفة الى المفتش فراه يحملق في الطالب المسكين الذي كان مبتسما فخورا بان انشاءه اختير ليقرأ على مسامع المفتش...
" جدتي المسكينة حطمتها "هانيكيفاه" ايضا وتركت اثرها على جسدها ايضا"..(هنا سمعت حشرجة صدرت عن حلق المفتش)..."أحيانا تأخذني في حضنها وتقول لي: لا تنسى "هانيكيفاه" يا حبيبي...من ينسى ماضيه ليس له مستقبل....لا تنساها ولكن لا تكن ضحيتها...اصع مصيرك بيدك...تذكرها لكن لا تجعلها وحشا يدوس عليك...كن رجلا ودس أنت على "هانيكيفاه" يا حبيبي...
كلما خرجوا "هم" ليحتفلوا بالشوارع أرى "هانيكيفاه" فقط...كلما رفعوا علمهم...أرى "هانيكيفاه" فقط...أراها وأفكر فيها في كل مكان...
عندما انام وعندما أقوم من نومي
عندما العب مع اصدقائي
عندما اشاهد مسلسلات الكرتون
عندما استحم
في أحلامي اتخيل "هانيكيفاه" وحشا... أكون في الحلم رجلا بالغا مع بندقية كبيرة... احيانا اخسر في الحلم فتفترسني ...وأحيانا أترصد "هانيكيفاه" وافاجئها واستعمل بندقيتي الكبيرة لاهاجمها من الخلف...أحلم اني أمسك بندقيتي بكلتا يدي وأندفع الى ه......"
- " خلص خلص خلص...اوكي اوكي...بكفي"..كان المفتش يمسح بعض العرق بمنديله
ثم نظر الى ماهر وسأل " لم أفهم ما قلته عن علم أو شيء من هذا القبيل؟"
"لحظة حضرة المفتش بس اقرأ القطعة مرة اخرى" نظر ماهر الى الورقة وهم بالقراءة مجددا لكن المفتش بادره قائلا: "مش مشكلة خلص...يعطيكو العافية" ثم خرج من الصف برفقة المدير وترك ماهر ورائه يكاد يسقط أرضا لشدة توتره.
* * *
كانت علامات التفكير بادية على وجه المفتش عندما استوقف المدير اثناء رجوعهما الى غرفة الاخير وسأله هامسا:
- فكرك اجا الوقت ندخل التربية الجنسية عالمدرسة؟ شكلو التوتر الجنسي بدا يأثر عالطلاب. بلاش يطلعو معقدين احنا مش ناقصنا بهالشعب. يعني هادا الولد الي كتب الانشاء شكلو متحامل عالنسوان كثير. انا عارف كيف بربو بالبيوت هالايام؟
هز المدير راسه موافقا واكمل الاثنان مشيتهما وكلامهما الهامس بينما كان الاولاد يلعبون في الساحة.