يروى أن الرحالة الكبير ابن بطوطة, وقد تقدمت فيه السن وخاف أن تواتيه المنية قبل أن يزور بيت المقدس, ترك جناحه الفاخر في فندق هيلتون عمان خلسة, وأوصى موظف الاستعلامات بعدم إبلاغ وكالات الأنباء بمغادرته خوفا من مصوري الباباراتسي بعد أن ناوله المعلوم من الدنانير (وفي رواية أخرى شوالا من القمح الطشقندي بسبب غلاء الرغيف الأردني ) ومن ثم قصد معبر أللنبي في أوائل الفجر ممنيا النفس بأيام سعيدة في الأراضي المقدسة التي سمع عن أهلها المرابطين المقاومين, وقرر انه سيخص هذه البلاد بكتاب خاص وان كان الأمر يتطلب إقناع دار النشر التي أوصاه صاحبها بإجراء دراسة مقارنة بين مذاقات أنواع الحمص في الأقطار العربية والابتعاد عن السياسة قدر الإمكان..زمن العجائب زماننا هذا !
"وصلنا يا حج" قطع سائق السيارة حبل افكار الرحالة
" تفضل..عشرون دينارا كما اتفقنا..."
"لا يا حج...هذا السعر لما السفرية مش مكندشة...انما مكندشة بصير 25.."
بدت على ملامح الرحالة العجوز علامات الاستغراب وقال للسائق: "اعلم يا بني ان الذي يقف أمامك رجل ذو باع طويل في الترحال قطع في حياته سهولا ووديانا وجبال, ولم يمر في بلاد الله مر الكرام بل تعلم من أهل كل قطر مفردات الأنام, حتى جمع في معجمه فصيح الكلام ولم يهمل ما تسمعه في الأسواق من العوام, فألم ببليغ الخطاب مما يسرق الألباب, وفظيع السباب الذي ان سمعه الطفل شاب, وحفظ ما يقال في مجالس علماء الفلك (وما اقلها في بلاد العرب) وفي قعدات طق الحنك (وهي على قفا مين يشيل كما يقول إخواننا أحفاد الفراعنة), لكن رغم إلمامي بمفردات الجد والهزل والكره والغزل والفرفشة والدردشة, إلا أني لم اسمع قط بكلمة "مكندشة", فأسعفني بمعناها أجارك الله"
"مكندشة معناها مكيفة يعني مشغل مكيف الهواء الي بيصرف الكهرباء...ناولني ال 25 بشرفك علشان أكمل...شكلك بتحب الرغي يا حج وأنا مستعجل"
استاء رحالتنا العظيم من صلف
السائق
وطول
لسانه
لكنه
كظم
غيظه
وهو
الذي
درس
منذ
نعومة
أظفاره
في
مدارس
البريطان وتلقن على أيديهم
أصول اللياقة وكبح اللسان,
وقال
بلهجة
جادة
ليست
بحادة:
" اعلم يا بني ان الذي أمامك كاتب ذو صيت يأبى ان يخاطبه احد بلسان سليط. وأزيدك من الشعر بيتا فأعلمك ان صيت البلاد يصنعه نهج العباد, فـان أنت أكرمت هذا الكاتب العجوز تكون قد أسديت لوطنك يدا بيضاء, يظهر أثرها في كتابي القادم عن شيم العرب في الصحراء. كما واحيطك علما والعلم بيان بان الكتاب نوعان: كاتب يتمتع بحظية الناشر واخر وقعه على الاخير وقع موظفي الجمارك على المسافر, فالاول يصرف على حساب الناشر دون حساب اما الثاني فعليه ان يكتفي بشطائر الرخيص من الكباب, الاول يحل في اجنحة الفنادق الفاخرة والثاني ينكب في سراديب فنادق الدرجة العاشرة, لعنة الله على دور النشر وليت القصاص ينزل على اصحابها في يوم الحشر, وانا من النوع الثاني سيء الحظ والسيرة وقد قال العرب قديما "العين بصيرة واليد قصيرة" فما رايك ان تاخذ العشرين و"نفضها سيرة"؟ ماذا قلت ايها البدوي الجليل والنشمي الاصيل, عظم الله من اجرك ودفع بالحسناوات دفعا الى صدرك؟"
"فنادق درجة عاشرة!! كيف لو اني مش ماخدك من الهيلتون" قالها السائق وبدأ يتقدم باتجاه الشيخ الجليل ببطء "ايدك عال 25 بالتي هي احسن.."
اكفهر وجه الرحالة واربد ثم اصدر حشرجة وأزبد,
فخرج صوته كالصاعقة مما اثار فضول المارقة, وخلط كعادته عند شدة الغضب ما بين السنة العرب في مفردات الشجار والردح والذم والقدح, فكان مما قاله: " تع[1] اضربني, لا عن جد تع اضربني!! بلاش تعمل عليا الحبتين دول اصلي بتخض قوي. والله عال! فكرك اول مرة بطلع بتاكسي انا مو هيك؟ ولك انا مقلع سناني في التاكسيات يا ول. غشيم انا عن التاكسيات فكرك ها؟. فكرك لو كل مرة شوفير تاكسي بدو يسرقني رديت عليه كان لاقيتني عالحديدة من زمان. وبتهددني كمان؟ هي حصلت؟ ولك تلفون واحد لمسؤول كبير عندكم بخفيك عن وجه الارض... وله...مش عارف مع مين عم تحكي شكلك..."
بغت السائق من حدة لسان الرحالة وخروجه عن وقاره وهم بقبول العشرين دينارا لكنه انتبه ان بعض المارة قد تجمهروا مع حقائبهم حوله وحول الكاتب الراكب السفيه بل ان بعضهم ترك الحقائب مع نسائهم وحملوا احد الاولاد واقتربوا ليتمتعوا ببعض الترفيه, أي انها "صارت محضورة[2]" وان تراجع الان ستصبح رقبته في حجم حبة السمسم المقشورة, فكتم نفسه حتى احمر وجهه وبانت الشرايين في جبهته وبدا كمن يعاني من البروستاتا المزمنة, وخرج صوته بالكاد حين اجاب "لا يا شيخ الغبرة...خوفتني ...مين يعني بتكون حضرة جنابك... والنعم والست نعام كمان..كلك على بعضك خلقة كاتب لا راح ولا اجا...ولو انك مش قد جدي كان مسحت فيك المعبر"
راع الرحالة وصول الجدال الى تلك الحالة وهو العالم بنفوس البشر بعد كل ما جرب واختبر, ولام نفسه على الانزلاق في هذا المطب الخطير حيث لا ينفع منطق ولا قوة تعبير, فرغب في تدارك الامر قبل ان يتبهدل في اخر العمر, وعقد النفس على قبول الشتيمة منعا لوقوع عواقب وخيمة مثل الضرب القاسي او –والعياذ بالله – حضور عدسات الببراتسي وهؤلاء ليسوا من فصيلة الانسان ومصيرهم في الاخرة حتما البكاء وصرير الاسنان -
لذا اخرج من جيبه عشرة دنانير اردنية وابتسم ثم قال بحسن نية : " تفضل...عشرة دنانير اضافية بدل خمس...تاخذهم بغير حق لكن لا بأس"
ما ان راى السائق يد الشيخ ووجه الاخير يبتسم ببشاشة حتى اصابه ما يصيب الثور حين يلوح الميتادور امامه بالقماشة , اذ بدأت قدمه تضرب الارض بشدة واختلجت اسارير وجهه بحدة, ومال عوده الى الامام قليلا ولم يعد احد يجد الى تهدئته سبيلا, وتسارعت انفاسه حتى سمع صوت لهاثه, ثم راح يحاول الوصول الى الشيخ ليبطحه او ان ينال منه الوجه فينطحه, فمنعه الجمع من الوصول اليه مما زاد من حنق السائق عليه, فاذ به يراوح في مكانه ثم يعيد الهجوم على حين غرة لكن الله لطف هذه المرة.
ساد الهرج والمرج المكان والسائق ما زال يحاول النيل من شيخنا الجليل الذي اصابه الذهول الكامل من هذه الحالة كما اخبر طبيبه النفسي فيما بعد, ومما زاد الطين بلة ان احد الفتيان ظن لسبب ما ان الشيخ – وقد شارف السبعين من عمره- سيحاول الهجوم على السائق, فهجم بدوره على الشيخ وأحاط صدر الأخير بيديه ثم اخذ يدفع به الى الوراء ويصرخ في وجهه "استهدي بالله يا حج...له يا حج...كبر عقلك" والشيخ تكاد فقرات ظهره تطق تحت ضغط ذراعي الفتى وقد فقد توازنه تماما فاراد ان يصرخ في الفتى "اتركني يا بني..اتركني" لكنه كان غير قادر على قول أي شيء بسبب انقطاع نفسه, فأحمر وجهه وبرزت شرايينه واخذ يحاول التخلص من ذراعي الفتى بكل قوته وقد بات قريبا من الاختناق, وكان من سوء الحظ ان السائق – وقد استطاع بعض الخلق تهدئة روعه قليلا – رفع راسه في تلك اللحظة بالذات وراى الشيخ في تلك الحالة فبدا له ان الاخير يحاول الاندفاع نحوه بدوره, فجن جنونه واخذ يصرخ كالمحموم "سيبوني عليه...سيبوني...اشرب من دمه" وعاود اندفاعه.
في تلك اللحظة بالتحديد اقتربت سيارتا اجرة من الجمع ثم وقفتا بشكل فجائي ونزل منها السائقان وقد تركا الركاب في السيارة, واندفعا الى مركز الحدث يصرخان "الله اكبر..الله اكبر"
ثم "وينو؟ (أي اين هو) ولكم وينو ابن ال......". خمن الجمع انهما اقرباء احد الطرفين فاشار البعض الى السائق والبعض الاخر الى الرحالة, فما ان رأى الاثنان السائق وهو في حالته حتى اصابهما غضب ما بعده غضب وصرخا معا "ابن عمي...ولا يهمك ابن عمي...عالموت ابن عمي"
ثم هجما هجمة رجل واحد على الشيخ الذي ما ان راى الثيران الثلاثة في طريقهم اليه حتى ارتخت مفاصله تحت وطء الخوف وضغط ذراعي الفتى النشيط وغاب عن الوعي.
انتهى الباب الاول
[1] اختصار تعال باللهجة الاردنية
والفلسطينية, تستعمل في الغزل والاثارة الجنسية والمشاجرات ورعي المواشي. انظر
"الدكتور رزين ابو مخ, "يا فرعون ايش فرعنك؟: دراسة سوسيولوجية
انتروبولجية ابوستمولوجية ايديولوجية بيولوجية عن انماط الشجار في بلاد الشام,
اصدار معهد القدس للدراسات الشرق اوسطية
انظر: الدكتور رزين ابو مخ "ما لقيتش حد
يضبني: الجزء الثاني من دراسة سوسيولوجية انتروبولجية ابوستمولوجية ايديولوجية
بيولوجية عن انماط الشجار في بلاد الشام, اصدار معهد القدس للدراسات الشرق اوسطية