الأحد، 26 يوليو 2009

وقع الاناء على الطريق - الجزء الثالث للمغامرة رقم 2


" أي هادا كلام فارغ...كلام فارغ ومسخرة" كان نطاح يصيح في الغرفة وهو يذرعها ذهابا وايابا

"هدي اعصابك نطاح...هلأ منعاود نقرأها ومنحاول نفهمها" قال فايز محاولا اضفاء الهدوء على صوته

"نفهمها شو يا فايز...صارلي يومين عم بحاول افهم...ومش بس انا كل القسم عنا مش قادر يفهم" ثم اخذ نفسا واردف "مبارح اضطررت اخذها للعقيد جواد لانو عيب يعني كل المخابرات تعجز عن بيت شعر...كتبتها عا ورقة وحطيتها قدامو...رفعها وبعدين تطلع فيها شوي بعدين حطها عالطاولة وقلي من غير ما يطلع في خلقتي: وديها عا قسم فك الشيفرة"

"ولو...مش لهالدرجة يعني...طب أسأل الاستاذ"

"أسأل الاستاذ؟ طب بشرفك اسكت...يعني بس ناقص يشوف حالو علي بزيادة. مهو من وقت ما بدا يعطيني الدروس وانا حاسس حالي عاجز...وعندي شعور انه الاستاذ عارف وعم بنتقم مني..فايز عم بقولك عاجزززز...اول مرة بشعر اني ضايع والشغلة عم تزعجني...تصور...مبارح بالليل مقدرتش..." ثم ضرب بكفته اليمنى المفتوحة على قبضته اليسرى المغلقة عدة مرات في إيحاء ظن ان فايز فهمه

لكن الاخير نظر اليه مستفهما.
أعاد نطاح الكرة ثم هز وسطه لكن فايز أشار بيده انه لم يفهم.

"روح تخيب انت التاني...روح عا مكتبك خليني اكمل..."

اتجه فايز ليخرج من الغرفة تاركا نطاح يردد بعصبية "جبناك يا عبد المعين.." وأغلق وراءه الباب, ليس قبل ان يضم أصابع يده اليمنى ويفرد الوسطى باتجاه ظهر نطاح ويتمتم بخفوت "شقفة غبي" ثم يذهب الى مكتبه.

* * *


دق الاستاذ نهاد باب الغرفة بهدوء وعندما لم يأذن له أحد بالدخول وقف في الممر متوترا بعض الشيء ذلك انه لم يكن يطيق المبنى على كل طوابقه وممراته وغرفه المغلقة وبالاخص أقبيته. كانت رائحة العرق نافذة تشتمها بوضوح بين الممرات كما ان الجدران كانت مليئة ببقع من الرطوبة والعفن والأرضية مغبرة رغم كثرة عمال الصيانة والتنظيف الذين تصادفهم يوميا, لكن لم يكن كل ذلك السبب الأساسي لانقباض روح أستاذ اللغة العربية كلما وطئت قدمه المبنى وإنما جو الرهبة الذي كان يغلف الهواء, وبالاخص طبيعة العاملين فيه وتعبير وجههم الثابت والغير مرحب الذي كانوا يقابلون به أي غريب يصادفونه في الممرات وبين الغرف. كان الأستاذ نهاد يحس انه من الممكن في أي لحظة ولأي سبب يمكن ان يتحول من ضيف الى سجين وأن قواعد العالم الخارجي وقوانينه لا تسري في هذا المكان.

بين الفينة والاخرى كان يفتح باب حديدي بجانب الغرفة التي كان الاستاذ ينتظر على بابها ويخرج رجل ما عابس الوجه, ثم يعود ويدخل ليخرج مرة اخرى. في المرة الثالثة خرج ذات الرجل وكان قد خلع قميصه وظل بفانلته التي كان العرق يرشح منها ومن كامل جسده رشحا, بينما لاحظ الأستاذ ان قبضته كانت ملطخة بالدم, فالتصق بباب الغرفة التصاقا ولم ينظر الى الرجل الذي لم يعر وجوده أي اهتمام بينما وقف خارج الباب وقال بلهجة من اعتاد ان يأمر فيطاع:
"نزلوا تحت وبعدين اطلعوا نظفو السجادة جوا.."

واستمر في مشيته ثم ظهر من وراءه رجلان يسحبان رجلا ثالثا من يديه وهو فاقد الوعي ووجهه ملطخ بالدماء محاولين اللحاق بالأول, ثم رفع أحدهما رأسه ونظر الى الاستاذ الذي كانت فرائصه على وشك الارتعاد ثم سأله: مين تستنى أبو الشباب؟

- نطاح..قصدي الرائد المطايزة.
- لحظة هلأ بناديلك ياه من تحت.

ثم أصلح من مسكته لذراع فاقد الوعي وأكمل سحبه الى المصعد في طريقه الى احد الاقبية التي كان الاستاذ نهاد قد تعرف عليها شخصيا.

***



"كيف حالك استاذ؟" سأل نطاح دون ان ينظر الى الاخير.


"سيادة الرائد عندي طلب صغير..يا ريت لو تقبلو"

"شو طلباتك؟"

لم تفت الاستاذ نهاد النبرة العدائية التي كان نطاح يخاطبه فيها لكنه تشجع وقال "يا ريت لو نقدر نجتمع في مكان تاني مش هون؟"

رفع نطاح حاجبه "ليش يعني؟"

"يعني" قال نهاد بصوت رقيق "مش مريح كتير هون وانتو الله يعطيكو العافية مشغولين...يعني...هيك اشياء"

"وين بدك يانا نجتمع؟ عندك بالبيت؟"

"المزبوط فكرت انو بشي كوفي شوب او مطعم" قال نهاد مبتسما "وعلى حسابي" ثم اتسعت ابتسامته

نظر اليه نطاح شذرا لبعض الثواني ثم قرب رأسه من المكتب الذي كان يفصل بينهما حتى خيل لنهاد انه سيثب عليه حتما واحمر وجهه قبل ان يقول بغيظ شديد: "قلتلي كوفي شوب أو مطعم ها...عشان تكمل المهزلة وتحاول تشرشحني قدام كل الناس وتطلعني غبي وجاهل..."

بغت نهاد وتراجع في كرسيه وتحشرج صوته وحاول أن يقول شيئا لكن نطاح سبقه وقال:

"إخرس ولا كلمة...فكرك انا مش فاهم شو عم بصير. انت عم بتحاول تعجزني وتظهرني بمظهر سخيف. هاذا شعر الي بتعلمني ياه؟! هاي قصائد هاي؟! "خبز وتحشيش ومش عارف شو"...هاي قصيدة هاي؟ ولا "جئت مش عارف من اين اتيت"؟ شو هالتخبيص؟ من أين أتيت يعني؟ من كس إمك أتيت ولا من وين أتيت يعني؟..."

كان وجه نهاد شاحبا بلون الجدران الباهتة لكنه حاول الدفاع عن نفسه إذ همس " سيادة الرائد...أرجوك..انا عم بحاول كل جهدي...انا ..انا عم بحاول اعلمك قصائد الي تعد من عيون الشعر الحديث والي هناك احتمال كبير ان يفتح النقاش حولها بالمهرجان...خبز وحشيش وقمر هي قصيدة عصماء ولاز..."

"بلا عصماء بلا همي" قاطعه نطاح ثم سكت وهدأ لثانية لكن وجهه عاود الاحتقان عندما لمح الورقة التي كانت على مكتبه فتناولها بيده ثم لوح بها في الهواء واندفعت الكلمات من فمه بهستيريا " بعدين تعال لهون وقلي...تعال لهون وفهمني...شو هاي الي معطيني احللها...بشرفك بشرفك وبحياة ولادك هاي قصيدة؟ هادا شعر هاد يا ناس يا عالم....في حدا بهالدنيا بكتب هيك إشي وبسموا شاعر...في حدا عاقل بهالدنيا بكتب..."

ثم قرب الورقة من عينيه وقرأ بصوت عال

"وقع الاناء على الطريق....فانكسر الطريق"

ثم نظر الى نهاد واعاد القراءة "وانكسر الطريق!!! شو بدك تجنني انت؟ "

فزع نهاد من مدى سخط نطاح فضم كفتيه وقال بتضرع "سيادة الرائد والله والله هيك القصيدة بتقول وبعدين هذا الاسلوب الرمزي في الكتابة والقصيدة الرمزية..."

"بلا رمزية بلا صبحية...طلع علي لأقولك..انا مصرتش رائد بالمخابرات علشان واحد أستاذ عربي وشاعر مخرضم يتهبل علي...بخسفك خسف.." ثم أقترب الي كرسي نهاد وأشار اليه بأصبعه " هلأ بدك تقولي انو اذا انا قلت " غرق الرجل في البركة فماتت البركة" ...هاي بتصير قصيدة رمزية"؟...جاوبني"

"سيادة العقيد...انا"

"بقولك جاوبني"

"هاي الجملة لا تصلح ان تكون شعرا لأنه ليس هناك ابعاد رمزية ودلائل للبركة"

"ممتاز إذن"

"لكن إذا قلت "غرق الرجل في البحر فمات البحر" ممكن لانو البحر قد يرمز الى الجنس او الحياة أو..."

"هيك يعني " قال نطاح بصرامة وقد بدأ يقترب من نهاد "وإذا قلت "رفس المحقق وجه الشاعر" ...شو رأيك تكمل البيت وتخليها قصيدة رمزية؟!"

أحس نهاد بالخطر فسقط على ركبتيه وقال وهو يبكي "والله والله ما قصدي أحسسك بالعجز لكن هيك الشعر الحديث احيانا وبصراحة انا احيانا بفهموش لكن شو اعمل؟ سيادة الرائد أرجوك اعفيني مش رح أقدر أعلمك بهالفترة القصيرة شعر قضيت عمر كامل وانا اتعلمه...أرجوك"

ظل الاثنان على هذا الحال صامتين برهة من الزمن, نهاد الذي كان راكعا امام نطاح وممسكا بركبتيه كمن يحاول منعه من الرفس, ونطاح ينظر اليه من أعلى وقد بدأت ثورة غضبه تهدأ, الى أن قال الاخير:

" انا اقتنعت انو مش قصدك والا كان حسابك تاني...واليوم قعدت أفكر ووصلت لنتيجة تريحني وتريحك...من اليوم وطالع فش حاجة تيجي لهون تعطيني الدروس"

رفع نهاد رأسه ونظر الى نطاح نظرة كلها أمل بينما اكمل نطاح

"في يوم المهرجان الاول بتيجي لهون لمكتبي وبتقعد فيه وانا بروح عالمهرجان لحالي وبكون على جاكيتي ميكروفون صغير الي بواسطته بتقدر تسمع أي حدا بحدثني وبنفس الوقت بتقولي عبر الميكروفون شو لازم أقول او اجاوب وبسمعك عبر السماعة الي في أذني...بس بشرط..اذا سألك أي حد بتقول اني تعلمت الشعر وكنت تلميذ لامع...فهمت؟"

أدرك نهاد انه لا مفر من القبول رغم ان الامر يعني عدم مشاركته في اليوم الاول للمهرجان, فأشار برأسه موافقا.

بعد ذلك ابتعد نطاح عنه وأدار وجهه للنافذة وسكت ففهم نهاد انه لم يعد هناك ما يقال وان عليه المغادرة, وقام ثم أصلح من هندامه متوجها الى الخارج قبل ان يسمع صوت تطاح يقول باستهزاء: "انتو عن جد بتصدقو الشغلات الي بتكتبوها؟"

لم يجب نهاد بشيء وهو يخرج من الغرفة ويغلق الباب وراءه لكنه وقف في الممر برهة ولم يستطع مقاومة الشعور بانه مر في القبو رغما عن كل شيء وكل ما بذل ليرضي هذا الوحش الادمي الذي تركه ورائه في الغرفة.

تمت



الجزء القادم والاخير: "لماذا تركت الحصان وحيدا؟"

هناك 6 تعليقات:

غير معرف يقول...

كتير حلو
طريقة كتابة شيقه وجميله ومتسلسله
تحياتي
غير معرف من الجزء السابق

زفت يقول...

شكرا عزيزي

ملاك يقول...

جميل ومضحك...
ايضا يحفز الخيال بشكل تلقائي

انتظر الأخيره :)

متأتئه.

مدخن عربي يقول...

مرحبا زفت

اشتقتلك يا زلمي :)

صرلي فترة مش عم بصحلي أعلق وأكتب، أما عند وقت أقرأ..
إيه دا يا راجل، إيه المواهب دي كلها ؟! وكيف حكوا لإم كلثوم بقولك عظمة على عظمة يا زفت :)

تحياتي

زفت يقول...

متأتئه

قريبا الحلقة الاخيرة بس نتعاقد مع ابو شهاب وابو عصام


مدخن

وينك يا رجل

كيف الامتحانات؟

دير بالك كترانه المجانين عنا يعني الشغل حبطرش

كدخن عربي يقول...

ظل عندي امتحان واحد بشهر 9. أما ضغط خيا..

ممتاز أسمع انو الشغل ماشي مليح، انا راجع قريباً، خليلي على جنب أكم مجنون..